خطر المخالفة لفهم السلف
إن خلافنا مع الحداثيين أصله في هذه القضية، وهو كيف نفهم الكلام؟ فإذا قلنا كما يقولون: إن الكلمة لها عند كل شاعر وعند كل قائل معنى يختلف عن الآخر، فلن يكون لدينا إذن شيء ثابت، فما الذي نؤمن به؟! وبأي شيء نتمسك؟! وإلى أي شيء نرجع؟! فقد يقول قائل: ربه هذا الحجر، فيقول أحدهم: هو لا يقصد الحجر إنما يقصد الله، والثاني يقول: ربي الله، فيقولون: لا. هذا كافر؛ لأنه ما يقصد الله الذي هو رب العالمين، إنما يقصد شيئاً من الأشياء سماه الله!
إذاً: لا معيار نستطيع أن نعرف به حقاً من باطل ولا صواباً من خطأ.
وكذلك الغربيون عندما يدرسون لغاتهم أو مصطلحاتهم، ينطلقون من منطلق أن اللغة اصطلاح تواضع عليه الناس، فمثلاً: اللغة اللاتينية التي هي لغة أوروبا الأصلية، كانت لغة العلم إلى القرن التاسع عشر، فإلى القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر كان العالم لا يكتب ولا يؤلف إلا باللغة اللاتينية، والجامعات كانت تدرس باللغة اللاتينية، وبعد ذلك تفرعت، فكل دولة أصبح لها لغتها المستقلة، فالذي أوجد اللغة هم الناس، حيث غيروها وأوجدوا لغة جديدة وانتهى الأمر، فليس لديهم نص معصوم ولا نص مقدس، واللغة هم الذين يضعونها.
إذاً لا مانع لديهم أن تتعدد الأفهام والآراء، وأن يضع كل إنسان ما شاء، فهذا فارق أساسي بيننا وبينهم، لكن نحن عندنا لغة مرتبطة بالقرآن، والقرآن كلام الله الذي سيبقى إلى أن يرفعه الله في آخر الزمان، ولدينا السنة يبقى فهمها فهماً محدداً لا يمكن الخروج عليه، وإلا لو فعلنا ذلك لاتبعنا ديناً آخر، فلو تغيرت معاني القرآن والسنـة؛ لكنا في دين آخر غير ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ومن هنا نعلم التقارب والتناسب بين هؤلاء الحداثيين وبين الصوفية والباطنية، فغلاة الصوفية والباطنية يقولون: الكلمة ليست كما تفهمها أنت على ظاهرها، حتى الكفر الصريح يقولونه قديماً ويقولونه حديثاً، ثم يقولون: لا بد أن يؤول، يقول خبيثهم: ما في الجبة إلا الله.. سبحاني سبحاني! ما أعظم شأني! وهذا كفر، لكنهم يقولون: أنتم ما فهمتم كلامه، هو لا يقصد أنه هو الله، لكنه في حالة الفناء، وفي حالة المحو، وفي حالة الشطح، فإذاً لا نكفره.
ويأتي أيضاً شاعر حداثي ملحد، فيتكلم ويقول في الله تعالى ما لا يجوز أن يقال، ولو قاله في حق مخلوق من المخلوقات لكان اعتداءً، وإذا قلنا: هذا كفر وإلحاد، قالوا: هو لا يقصد الإلحاد، لكن هذه هي الرؤية الشعرية وهذه اللغة الشعرية، وهذا هو الصراع النفسي الذي في داخله، إذاً فالقضية واحدة، والمنطلق واحد، وأيضاً النهاية واحدة.
فلينتبه المسلم لهذه القضايا، فهي أساسية جداً؛ لأنها تمس أصل الدين تماماً، وليست خلافاً فيما يقبل الخلاف.
هذا أمر وأصل عظيم تنبني عليه أمور عظيمة، فالذي لا يسلم بأن القرآن والسنة يفهمان كما فهمهما السلف الصالح، وأن كلام الله سبحانه وتعالى لا يُفَسَّر إلا وفق ما ذكرنا، فإنه سيضل ضلالاً بعيداً، ولا تأمن أن يفسر ما شاء كما يشاء.
وقد ظهر كتاب عبارة عن ثلاث محاضرات لـحسن الترابي، وهو يجري على نفس المنهج، لكن ليس من باب الحداثة الأدبية، وإنما من باب العصرية الإسلامية -إن صح التعبير- والحقيقة أنه لا يتسع المقام لأن نستعرض ما في هذه المحاضرات وما في غيرها من كتبه، لكنه يجري على نفس المنوال، ويفسر بعض الأحكام بتفسير لم يسبقه إليه أحد من السلف.
وفي نشرة صغيرة له ولاتجاهه المسمى: الاتجاه التجديدي، يقولون: إن الذين يفهمون القرآن من خلال تفسير الطبري أو ابن كثير أو فلان أو فلان من أمثال هؤلاء؛ يتابعون الفهم التقليدي العقيم، الذي لا يؤدي إلى تجديد ولا إلى فهم الإسلام على حقيقته، وإنما الفهم الصحيح للإسلام أو للقرآن يكون بالمعاناة، وأن الإنسان يقرأ النص القرآني ويتأمل ويعاني حتى يفهم المعنى الحقيقي، وهذا مثل ما قال أولئك القدامى من الباطنية والصوفية من جهة، ومثل ما يقوله أيضاً الحداثيون عن الشعر أو القصة من جهة أخرى، فأصل الضلال عندهم هو إعراضهم عن فهم السلف الصالح، وهذا أمر يجب أن يتنبه إليه الشباب المسلم، وأن يعرفوا خطره على الإسلام.